أنت إنسانٌ عادي تعيشُ في عصرٍ يتسابق فيه الجميع للظهور، ويطمحون إلى الفوز، ولو بذلوا كل غالٍ ونفيس. يبدو من خلال هذه المقدّمة أن هذه الـ«العادية» تُهمةٌ بالجريمة، ولو لم يُصرّح بذلك!
الشعور بالذنب صار سِمَةً لكثير من الناس. إدمانٌ لا يستطيعون الفكاك منه. كآبةٌ ضبابية، ليس لها حدودٌ واضحة أو معاييرُ يمكن الرجوع إليها. نلوم أنفسنا لأننا لا نحظى بوظيفة مرموقة، أو منصب لامع ذي سلطة. لأننا لم نحقق شهرة على منصات التواصل، أو بروزًا اجتماعيًا يتعدى حدود منظماتنا وعوائلنا. نتألّم من كون حياتنا رتيبة: نهار يعقبه ليل، تتوالى في دائرة مفرغة. أول يوم في الشهر يشبه وسطه وآخره!
لكن مهلاً! متى صرنا هكذا!؟ كيف اقتنعنا أن البساطة تعني الفشل؟
طوفان منصات التواصل، وقصص النجاح الُملهمة التي تُروى في كل مكان، رفعت سقف التوقعات -تدريجيًا بدون أن نلاحظ- إلى درجة جعلتنا نشعر بالتقصير الدائم والدونيّة!
في ساحة الحياة اليومية، ينظر بعضنا إلى «العادي» نظرةً سلبية، تحكم عليه بالكسل والضعف وانعدام الطموح. مستدلّةً على وجود هذه الصفات الذميمة فيه بكونه لم يحقق شيئًا برّاقًا يجذب الأنظار إليه.
إذا تجاوزنا الظلم الذي تفرضه هذه النظرة على الناس، ورجعنا إلى حقيقة الأمر متسائلين: ماذا يعني أن تكون عاديًا حقًا؟ أليس هذا العادي هو زميلي وزميلك، وجاري وجارك؟ من يُبقي عجلة التنمية تدور؟ من يعيش دون أضواء ولا ضجيج، يهمّه الجوهر، ويحمل أعباء الحياة الحقيقية؟
«العادي» يا سيدي هو من يساهم بالاستقرار، ويزرع بذور التميّز والأمل التي قد يُسعفها الحظ فتُنبت لنا أطيب الثمار.
«العادي» مُعلِّم ليس عنده قناةٌ على «يوتيوب»، وربما لا يعرف «التيك توك» لكنه متقن لمهنته، مستمرٌ في بناء الأنفس والعقول وإنشائها كما قال أمير الشعراء.
هو فنّي ماهر. لا يظهر في مقابلات إعلامية، غير أن أرباب الأسر يحفظون رقم هاتفه غيبًا. فهو خبير متمكّن يُصلح الأعطال بأمانة واقتدار، ويوفر سبل الراحة لآلاف البشر.
انظُر إلى تلك الأدوار «العادية» بإنصاف، أليست هي الأساس الذي يقوم عليه المجتمع، ولا يمكن له أن يزدهر بدونه!؟
ثم إن المميّز أو «غير العادي» اكتسب تميّزه بسبب كونه مختلفًا عن أغلب الناس. فليت شعري من سيكون “غير عادي” إذا كان أغلب الناس غير عاديين!؟
ألا توافقني الرأي الآن في أن الدائرة دارت وصار «العادي» هو المميز فعلًا! 😅😁
يعلم الناس في داخل أنفسهم أن «العادية» ليست عيبًا. لكننا لا نُنكر الشعور بالذنب الذي يتسلل إلى أنفسنا حين نتذكّر أننا أشخاص عاديون.
هذا الألم لا ينشأ من فراغ؛ بل ينبع غالبًا من مقارنات مستمرة وغير منصفة. عوّدتنا على أن نرى حياتنا ونقارنها بحياة الآخرين، أو بعبارة أدقّ بما يظهرونه منها.
النخبة المؤثرة تُشارك نسختها «المُفلترة» من الحياة، حيث لا مكان للإخفاقات، ولا وجود للحظات الضعف. والمتلقّي يُقارنها بعامّة حياته فيرجع بالخيبة والأسى.
من الظلم الشديد لذواتنا وللآخرين، أن نُقارن أنفسنا بنتيجةً ناجحة لشخصٍ ما، دون أن نعرف شيئًا عن كواليس كفاحه ومعاناته التي كانت في الظل بلا أضواء. التشاؤم قد يخيّل إلينا أن الجميع يعيش حياة مثالية إلا نحن، ونغفل أن لكل شخص نصيبه من التحديات والمصاعب التي لا مهرب منها.
التركيز على المقارنة يستنزف طاقتنا الذهنية والعاطفية،ويجعلنا نلهث، ولا نستمتع بشيء! لقد اشترينا الفكرة التي تقول: «إن الحياة الحقيقية هي الحياة التي يعيشها غيرنا» وبئس ما اشترينا! ونسينا أننا مطالبون بما يناسبنا. الطريق الصحيح هو الطريق الذي يناسبك أنت، بغض النظر عن المعايير الزائفة الأخرى.
لو كنتُ قاضيًا -وأسأل الله ألّا أكون- ثم رُفعت إليّ قضية «الإنسان عادي» لما ترددت في حكم البراءة لصالح السيد “عادي”.
إذا شعرت يومًا بأنك عادي، وانتابتك غصّة بسبب هذا الإحساس، فتوقف لحظة واسأل نفسك: ما العيب في ذلك؟ ولا تلتفت لوسوسة النفس التي ستأتيك بألف حيلة لتسوغ موقفها القلق المزعج. واثبت على رأيك في أن العادية ليست مشكلة، ولا منقصة. بل هي مساحة رحبة تسمح لنا بأن نعيش طبيعتنا دون تصنّع أو ضغوط. واحة نجد فيها الرضا والاتزان بعيدًا عن صخب التنافس الذي لا ينتهي.
اِفخر بإنجازاتك الصغيرة، لأنها اللبنات التي تبني حياتك. ولا تنسَ مواصلة السعي في هذه الحياة طائرًا بجناحي الرضا والبذل، ففي النهاية، كلنا بشر، نقوى أيامًا ونضعف أخرى.
ترشيحات النشرة
نرشّح لك حلقة نستضيف فيها كريم إسماعيل يشاركنا فيها تجاربه في صناعة المحتوى، وإدارة الوقت، والتغلب على التوتر، وأهمية الصدق مع الذات بدلاً من السعي وراء الكمال.
مشاهدة مثرية.