تخيل مكانًا تذهب إليه وكأن أحدهم يجُّرك جرًا لكي تثبت حضورك عن طريق البصمة، وما هي إلا دقائق فقط وإذا بالأوامر تمطر عليك من كل صوب وذلك من أجل القيام بكذا ومنع كذا وضرورة تسليم كذا، تشعر بثقل نسمات الهواء التي تطبق على صدرك بسبب الأجواء المشحونة، فكل شاردٍة وواردٍة تقوم بها تكون في مرمى نظر الكاميرات التي تلف جنبات المكان ويطالعها المدير بستةِ شاشات مختلفة الأحجام، وما إن تُخطئ ولو سهوًا حتى ترميكَ العيون شزرًا، ويكون الويل شديدًا في تقييم نهاية السنة.
تراقب ساعتك ثقيلة الخطى طلبًا للخروج من هذا القفص المزعج، وما إن يعلن وقت الانصراف إلا وتتهللّ أسارير وجهك وإذ بك تطير سريعًا نحو سيارتك وإن كنت حبيسها لوقت طويل فجنة الزحام ولا جحيم العمل!
لا يوجد هناك شك عن العلاقة الطردية ما بين أن يكون الشخص سعيدًا في عمله مع زيادة انتاجيته في بيئات العمل المهنية، عاكسة بذلك أثرها الكبير والمستمر على الأفراد فيصبح الموظف السعيد أكثر إنتاجًا، وإبداعًا، وابتكارًا داخل منظومة المؤسسة المهنية.
ولكن السؤال هو كيف بإمكان الإدارات العليا في البيئات المهنية خلق بيئة تحفز من مفهوم السعادة، لتجعل من موظفيها متصفين بهذه العادة الايجابية بشكل دائم ومستمر؟
في محاضرة لديفيد قولدسميث وهو الرئيس المؤسس لمنظمة تحمل إسمه والمستشار الدولي في التجارة وإنشاء المنظمات غير الربحية المتعلقة بعمليات القيادة وصنع القرار الاستراتيجي بعنوان «كيف يلهم القادة العظماء السعادة في العمل والحياة؟»، تطرق ديفيد لمفهوم مختلف في خلق السعادة وهو الذي يعنى بالجانب المؤسسي والإداري وذلك من أجل السعي من قبل القادة في خلق «هياكل، وأنظمة» تساعد الموظفين على العمل، مما سيؤثر على أداء الموظفين إيجابًا وشعورهم الأكيد بالسعادة، ويعني بذلك تهيئة «الأنظمة، والقرارات، والأجهزة، والمرافق، والمعدات، والمباني… الخ» وتنفيذها على أرض الواقع، مما يعني الوصول للمراد في بث روح السعادة لدى الأفراد في المؤسسات المهنية، مما يعني المساهمة بشكل ملحوظ في زيادة الانتاجية بعشرة أضعاف النتائج التي تكون في الظروف الطبيعية، بالتالي نتائج مستدامة، تحدث الأثر الايجابي داخل المنظومات المهنية.
يؤكد ديفيد بأنه يجب عكس النظرية المعتادة في كون الموظفين أكثر جزء يجب الاهتمام به ليكون مختلفًا هذه المرة وذلك في أن تشكل ما نسبته ٨٠٪ من جُلّ إهتمام القادة في خلق الهياكل والأنظمة التي تحفز من مفهوم السعادة، في مقابل ٢٠٪ والتي تكون منوطة في تحفيز الموظفين، وذلك لأنه وببساطة متى ما تهيأت البيئة السليمة، فإنها ستدعم الموظفين تلقائيًا، مما يؤدي إلى خلق بيئة تتسم بالإبداع والابتكار.
دائمًا ما يرتبط إسم التغيير في المؤسسة على الموظفين تحت خانة (التغيير الناعم) ولكن في حقيقة الأمر يعتبر الأصعب مهمة، والأكثر تعقيدًا، ويحتاج لجهد كبير حتى تنهض المنظومة سواءً بسواء مع أهداف المؤسسة الصحية ورؤيتها، ويمكن تحقيق ذلك بثلاث مراحل أساسية:
- التغيير المنهجي:
– تحديد الأهداف.
– تحديد التأثير.
– تحديد النهج.
- إدارة التغيير:
– الخطة/تنفيذها.
– المتابعة المستمرة.
– التكيف مع العمل.
- إستدامة النتائج:
– مراجعة الأداء.
– الاستدامة النشطة/المستمرة.
– نقل الفكرة للآخرين.
في دراسة بجامعة أكسفورد في عالم ٢٠١٩ كان هدفها معرفة إنعكاس التغير الايجابي في نطاق المؤسسات على الموظفين، وجدت الدراسة بأن هناك زيادة في نسبة الإنتاجية تصل إلى نحو ١٣٪، وهذا ما ساعد في بقاء الموظفين داخل المؤسسة وعدم تسرب الكفاءات بعيدًا عنها، وخروجها السريع من عباءة المنظومة التقليدية نحو بيئات العمل الأكثر سعادة وتقديرا لمهاراتهم ومواهبهم.
وهنا يتبادر سؤال آخر أيضًا للمدراء هل هناك استراتيجيات معينة تُمَكِّنْ المدراء من جعل بيئتهم أكثر سعادة؟ يمكن الاجابة على ذلك السؤال بعدة استراتيجيات يمكن إتباعها لخلق بيئة سعيدة ما بين المدير وموظفيه في المجتمعات المهنية، ومنها:
١- تعميق أواصر العلاقة بزيادة الأنشطة:
ويمكن ذلك من خلال القيام بجولات المشي بين الموظف ومدرائهم في أرجاء العمل على سبيل المثال، أو في الحديقة الخارجية، أو القيام بعمل الانشطة التي تتطلب وقتًا أطول في الانسجام ما بين الموظف ومرؤوسيه، كرياضة الهايكنق، أو كرة القدم، يمكن لكسر الحواجز والقيام بالرياضات التنافسية، أو الأقل حدة في خلق علاقة مميزة، ورائعة، تحدث الأثر الايجابي داخل بيئة العمل لاحقا، وبالتالي نشر أكثر لمفهوم السعادة.
٢- احتفل معهم:
الاحتفال مع الموظفين بإنجازاتهم الخاصة في إطار العمل سيسهم بشدة في زيادة شعبيتك بين الموظفين، خصوصًا لأولئك الهادئين، والمتواضعين، الذي يحبون أن يكون عملهم مُقدّرًا حتى وإن لم يطلبوها بصريح العبارة، وتجنبًا لمتلازمة (الاحتراق الوظيفي) الذي يتكبده كثير من الموظفين الصامتين، والذين يتسربون لاحقًا لوظائف أخرى، باحثين عن بيئة أكثر تقديرًا لأعمالهم المتفانية والمستمرة، وقد لا يكون ذلك من خلال الاجتماعات متعددة الأشخاص بل عبر وسيلة الرسائل القصيرة بين المدير وموظفيه، أو المقابلات الانفرادية معهم سوف تبني هذه الثقة، مع وضوح أهداف المنظومة ورسائلها عند تأكيدها في كل مرة من قبل المدير مع هذه الاجتماعات أو الرسائل الخاصة.
٣- قَدِّم التهاني:
من خلال معرفة أيام الموظفين المميزة والخاصة، يمكن للمدير الاحتفال مع موظفيه ويمكن ذلك من خلال الاحتفال مع الشخص الذي أتم شهادة ما في إطار التخصص مثلًا، أو الاحتفال معه بقدوم مولده الجديد، أو في عودته للعمل بعد فترة انقطاع طويلة، هذه المناسبات وتأثيرها سوف يصبح أبعد من إطار العمل المتعلقة فقط بكثير من السياسات والاجراءات والوصف الوظيفي لتكون أعم وأشمل في الحياة وذلك في كونها عاطفية ومميزة.
٤- اسمع الآراء:
لكل موظف وجهة نظر رائعة وصائبة في كثير من الأحيان، وذلك منطقي في كونهم في أرض الميدان، فبإمكانهم ومن خلال مواقعهم رؤية المشكلة مع وجود حلها في أذهانهم، ولكنهم يحتاجون بشدة لمدير يصغي لهم، وينفذ آراؤهم إن كانت وفقًا للمنظومة، ويمكن أن يكون تأثير ذلك أكبر خاصة عند الاشارة لإسم الشخص بصوت مسموع، والثناء على الفكرة التي طرحها أمام باقي الموظفين، ويعود سبب ذلك بأن الكثير من القرارات الصائبة والتي يكال للمديح فيها للمدير تكون في الأصل وجهة نظر الموظفين أنفسهم، ورأيهم الصحيح الذي تمت الموافقة عليه، وتطبيقه بعدئذ ليصبح واقعًا محسوسًا يستحق الموظف أن يثتى عليه لقاءَ هذا الرأي الصائب.
السعادة بإمكانها أن تكون في المؤسسات المهنية، ومن خلال المدراء أنفسهم، وفقًا للامكانيات المتاحة، وأن تؤمن بشدة بقدرة التغيير في خلق ذلك، فالسعادة في بيئات العمل ليست مجرد رفاهية، بل هي استثمار ذكي، ومن هذا المنطلق الشركات التي تستثمر في سعادة موظفيها تجني ثمارًا وفيرةً على المدى الطويل، من زيادة الإنتاجية والابتكار إلى انخفاض معدلات التغيب والتسرب بين موظفيها، فالسعادة في النهاية هي عملة نادرة في سوق العمل، ومن يستثمر فيها يضمن لنفسه مكانة متميزة بين مختلف بيئات العمل الموجودة في السوق.
اشترك الآن في نشرتنا البريدية
ترشيحات النشرة
نرشّح لك حلقة تنظر للموضوع من زاوية أخرى، حلقة تناقش كتاب «الرجل الذي ظن أن العمل حياته». والذي يهدف إلى وصول الفرد لدليل شامل يساعده على تحقيق توازن أفضل بين الحياة المهنية والشخصية.