
صديقي العزيز، هل سبق لك أن اتخذت قرارًا بدا منطقيًا تمامًا في حينه، لكنك سرعان ما ندمت عليه؟
بالرغم من حرصنا الشديد وسعينا للتفكير بمنطق، نجد أنفسنا أحيانًا نسير في طُرق لم نكن ننويها، أو نقع في أخطاء كنا نظن أننا بمنأى عنها…
يا ترى هل هي قلة خبرة أو سوء تقدير؟ أم أن هناك شيئًا آخر يحدث بخفاء داخل عقولنا نفسها!
فحتى مع قوة عقولنا المذهلة، إلا أنها قادرة على خداعنا في أهم اللحظات، وقد تقودنا إلى اتخاذ قرارات لا تخدم مصلحتنا أبدًا.
كيف يوقعنا العقل في فخاخ ذهنية؟
دعني أبوح لك بسرٍ اكتشفته مؤخرًا، بعدما استمعت إلى حلقة رائعة من «بودكاست غلاف» بعنوان: «كيف يخدعك عقلك في اتخاذ القرارات؟» والتي ناقشت بعض المفاهيم القيمة من كتاب (Unlocking Leadership Mindtraps). مفاهيم شعرتُ أنها تلامسنا جميعًا وتستحق أن ننتبه لها في زحمة قراراتنا اليومية..
يكمن جوهر السر في أن عقولنا هذه، التي نراها أساس قوتنا في توليد الأفكار ورسم الخطط الطموحة والسعي نحو تحقيقها، قد تكون في الوقت ذاته مصدرًا لخدع بارعة وفخاخ دقيقة ننصبها لأنفسنا دون أن ندري.
هل يعقل ذلك؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف لنا أن نتعامل مع هذه الخدوش الخفية في منظومة تفكيرنا؟
تعال يا صديقي نتسامر قليلًا ونتقاسم هذه الأفكار، لعلها ترتب شيئًا من الفوضى في أذهاننا، وترشدنا نحو رؤية أوضح لكيفية اتخاذ قراراتنا.
فخاخ العقل الشائعة وتأثيرها
لنتأمل سويًا في الطرق الخفية التي قد تدفعنا فيها تحيزاتنا اللاواعية لاتخاذ قرارات تؤثر على حياتنا اليومية، سواء على الصعيد المهني أو الشخصي. وفيما يلي، نغوص في خمسة من أكثر هذه الفخاخ الذهنية شيوعًا.
حين يُصبح النقص في المعلومات قصة كاملة
هل هذه هي الحقيقة فعلًا أم أنها القصة التي ألفها لي عقلي؟
تخيل معي يا صديقي، أن عقلك لا يُحب الفراغات. عندما تكون الصورة غير مكتملة أو المعلومات شحيحة، يُسارع بملء الثغرات ورسم قصة متكاملة ومنطقية في ظاهرها، لتُصبح هي الحقيقة التي تَبني عليها أحكامَك وقراراتك.
هذه هي حيلة «القصص البسيطة». قد يكون موقف غامض في العمل، معلومة ناقصة عن مشروع جديد، أو حتى تصرف من زميل لم تفهم دوافعه كاملة. بدلًا من التوقف والسؤال والبحث عن الحقائق المفقودة، يقوم العقل بنسج حكاية تُرضي فضوله وتشعره بالراحة، وغالبًا ما تكون هذه الحكاية بعيدة عن الواقع الفعلي، مليئة بالافتراضات والانحيازات غير المدركة.
كم من قرار مهني اتخذته بناء على قصة ألفها لك عقلك في لحظة سريعة؟ كم من فرصة أضعتها أو مشكلة تفاقمت بسبب هذه القصص الوهمية؟
المخرج من هذا المأزق يا صديقي يبدأُ باليقظة، أن تُدرك أنّ ما يُقدمه لك عقلك كحقيقة مطلقة قد يكون مُجرد قصة ناقصة تم تكميلها بافتراضات…
إذ يتطلب الأمر شجاعة في التوقف، والاعتراف بنقص المعلومات، وطرح الأسئلة الصحيحة لملء الفراغات بحقائق لا بأوهام. فهي ممارسة تحتاج الى صبر ومثابرة، لكنها ثمينة جدًا لضمان أن قراراتك تستندُ إلى أساس واقعي.
فخ السيطرة: وهم التحكم في عالم لا يُتحكم فيه
هل احتاج حقًا للسيطرة على هذه النقطة بالذات أم أنها تفصيلة صغيرة تُشتتني؟
هُناك ميلٌ طبيعي لدينا، ويزدادُ لدى الذين يتولّون مواقع قيادية أو يسعون للإنجاز والتحكم، وهو الرغبة في السيطرة على كلّ شيءٍ من حولنا. على النتائج، على الأشخاص، وحتى على الظروف.
وعندما نشعر بأننا فاقدون للسيطرة في جوانب مهمة من حياتنا المهنية أو الشخصية، نحول طاقتنا وتركيزنا إلى أمور صغيرة وتفصيلية يسهُل التحكم فيها، لنستعيد شعور القوة والتحكم، وهذا هو «فخ السيطرة».
قد تجد نفسك تركز على تنسيق البريد الإلكتروني بشكلٍ مُبالغ فيه بينما المشروع الأساسي يواجه تحديات كبرى خارج سيطرتك المباشرة. هذا التركيز المفرط على التفاصيل القابلة للتحكم يشتتك عن التفكير في الاستراتيجيات الكبرى للتعامل مع الموقف المعقد.
الحقيقة يا صديقي هي أن العالم الذي نعيش فيه معقد بطبيعته، وليس من الممكن التحكم في كل جوانبه. الخطوة الأولى لتجاوز هذا الفخ هي قبول هذه الحقيقة؛ وأن تركز على ما تستطيع حقًا التأثير فيه وتغييره، وأن تترك ما هو خارج عن إرادتك.
والأهم من ذلك، أن تُبقي عينَك على الهدف الأكبر، على الصورة الكاملة التي تسعى للوصول إليها، ولا تجعل التفاصيل الصغيرة تُلهيك وتُقنعك بأن عليك التحكم بكل خيطٍ من النسيج.
الموافقة لأجل إرضاء الآخرين.. ثمنٌ باهظ
هل موافقتي هذه نابعة عن اقتناع حقيقي أم أنها مُجرد رغبة في إنهاء الموقف؟
وهذا يقودنا إلى «فخ التوافق» الذي كثيرًا ما نقعُ فيه في بيئات العمل أو حتى في علاقاتنا الاجتماعية. وهو ميلٌ فطري داخلنا لأن نكون مقبولين، وأن يتفق الآخرون مع آرائنا ولنتجنب الصراع والمواجهة.
لهذا السبب، قد نجد أنفسنا نوافق على آراء أو قرارات لا نُؤمن بها في قرارة أنفسنا، فقط لنتجنب الدخول في نقاش أو معارضة قد تكون مزعجة. نردد «نعم» بينما أصواتنا الداخلية تصرخ بـ «لا» مدوية.
وهذا بالطبع يُؤثر سلبًا على جودة القرارات المتخذة، ويجعلك تشعر كأنك تسير في تيارٍ ليس تيارك. فقد تجد نفسك توافق على استراتيجية عمل لا تراها مجدية، أو تسكت عن خطأ واضح يمكن تداركه، فقط لتحافظ على جو من التوافق الظاهري. هذا السلوك يُضعف جودة القرارات المشتركة ويُقلل من الفُرص للوصول إلى حلول أفضل من خلال تبادل الآراء المختلفة.
لكي تتحرر من هذا الفخ، تحتاج الى بناء شجاعة داخلية للتعبير عن رأيك بصراحة واحترام، حتى لو كان مختلفًا عن آراء الآخرين. وتحتاج أيضًا إلى المساهمة في خلق بيئة آمنة حولك، سواءً في العمل أو خارجه، لتشجع الناس على التعبير عن آرائهم بحُرية دون خوف من النقد أو الحكم.
وتذّكر يا عزيزي أن الاختلاف في الرأي ليس عداوة، والاستماع للرأي الآخر لا يعني بالضرورة أنك ستؤيدُه، بل يعني أنك تفتحُ مجالًا للفهم وربما اكتشاف زاوية جديدة لم تكُن تراها من قبل.
التمسك بكونك على صواب دائمًا.. قيد يعيق التطور
هل اتمسك برأيي لأنه الصواب أم لأنني أريد أن أبدوَ على صواب؟
«فخ الصواب» وهذا قصة آخرى…
إذ تجدُ الشخص لديه قناعة راسخة بأن رأيه هو الحق المطلق، وأن أيّ شخص يُخالفه فهو حتمًا على خطأ!
وهذا يؤدي إلى انغلاق الذهن وعدم الاستماع للآراء المختلفة بجدية، بل وحتى عدم التفكير في إمكانية تغيير القناعات أو تعديلها بناء على المعلومات الجديدة.
يكمُن السرّ هنا في أن تستمع لتتعلّم، لا لتُجيب وتُثبت أنك على صواب. اسأل نفسك باستمرار: لم يرى هذا الشخص الأمور بهذه الطريقة؟ وما الذي يُمكنني أن اتعلمه من وجهة النظر هذه؟ وحاول أن تفهم وجهة نظره بصدق، حتى لو كانت مُغايرة تمامًا لما تُؤمن به. فلا عيب في أن تُغيّر رأيك عندما تكتشف أن هناك رأيًا آخر أقربُ إلى الصواب، أو أن معلومة جديدة تُضيف وضوحًا للصورة… فهذه المرونة الذهنية كنزٌ حقيقي في رحلتك المهنية والشخصية.
حين تُصبح «الأنا» حارسًا على منطقة راحتك
هل «الأنا» هي التي تدفعني للتصرف هكذا؟
أخيرًا «فخ الأنا». هذا الفخ مُرتبط برغبتنا الطبيعية في الحفاظ على صورة إيجابية أمام الآخرين، وحتى أمام أنفسنا. نخشى أن نبدو ضعفاء، أو غير عارفين، أو مخطئين. وهذا قد يدفعنا أحيانًا لاتخاذ قرارات ليست الأفضل لكن فقط لنُحافظ على هذه الصورة، أو نرفض تعلم أمور جديدة لئلا نبدوَ كأننا في حاجة للتعلّم.
المفتاح هنا يكمُن في أن تُعيد تعريف النجاح والفشل. أن تُدرك أن طلب المساعدة قوة لا ضعف، وأنّ الاعتراف بنقص المعرفة هو أولى خطوات التعلم.
اسأل نفسك بصدق: ما هو الهدف النهائي الذي اسعى لتحقيقه؟ إذا كان هدفك الحقيقي هو التطور والنمو والوصول إلى أفضل نُسخة من ذاتك، فعليك أن تكون مُستعدًا لوضع «الأنا» جانبًا لبعض الوقت. واسأل نفسك أيضًا: هل يخدم هذا القرار هدفي الأكبر أم أنه يُرضي فقط صورتي أمام الآخرين؟ مراجعة قناعاتك وأفعالك دوريًا، وتقبّل فكرة أن التعلم رحلة مستمرة لا تتوقف، كل ذلك سيساعدك في تجاوز فخ «الأنا» وفتح آفاق جديدة للنمو والتقدم.
نصيحة عملية لتجنب فخاخ العقل
الوعي بداية الطريق
يا صديقي، هذه الفخاخ الذهنية ليست عيوبًا في شخصيتنا، بل هي جزء لا يتجزأ من طبيعتنا البشرية، وليس وقوعنا فيها دليلًا على نقص في ذكائنا أو قُدراتنا. الهدف ليس في التخلص منها تمامًا من حياتنا، فهذا قد يكون صعبًا إن لم يكن مستحيلًا. لكن الهدف الحقيقي هو الوعي بوجودها، أن نُدرك أن عقولنا تستخدم هذه الاختصارات الذهنية، وأنّها قد توقعنا في مأزق.
هذا الوعي هو الخطوة الأولى نحو تعلّم كيفية التعامل معها، وتقليل تأثيرها السلبي علينا. حينما تُصبح واعيًا بهذه الفخاخ، ستبدأ بملاحظتها في طريقة تفكيرك، وفي أسلوب حديثك، وفي القرارات التي تتخذُها، ستُصبح أكثر قُدرة على التوقف والتفكير بنقدية قبل اتخاذ قراراتك.
خلاصة القول يا عزيزي..
رحلتنا في الحياة المهنية والشخصية مليئةٌ بالمحطات التي تتطلب قرارات حاسمة، فكل قرار هو خطوة على درب نرسمه لأنفسنا. فهمنا لكيفية عمل عقولنا، لقوتها ولنقاط ضعفها، هو استثمارٌ لا يُقدر بثمن لنضمن أننا نتخذ القرارات التي تخدم مسارًا يُشبهنا ويحقق تطلعاتنا حقًا.
إذا شعرت بأن هذه الأفكار قد لامست شيئًا في داخلك، أو إذا كان لديك مواقف معينة مررت بها وشعرت أن هذه الفخاخ كانت حاضرة فيها، فيسعدنا جدًا أن نتشارك الأفكار ونتعلم معًا. ولنكن على اطلاع دائم بكل ما هو جديد لنجعل رحلتنا هذه أفضل وأمتع.
اشترك الآن في نشرتنا البريدية

ترشيحات النشرة
نرشّح لكم حلقة ثرية من «بودكاست غلاف» مع الأستاذ خالد الحقيل، لمناقشة كتاب «فخاخ العقل وتمكين القادة» للمؤلفة جينيفر بيرغر، وكيف تؤثر الفخاخ الذهنية على قراراتنا اليومية. نستعرض الفخاخ الخمسة التي يقع فيها القادة، مثل فخ التبسيط، وفخ السيطرة، وفخ الموافقة، وكيف يمكننا التعرف عليها وتجاوزها لتعزيز جودة قراراتنا. حلقة عميقة ومفيدة لكل من يسعى لفهم طريقة تفكير العقل وتحسين قيادته لذاته والآخرين. شاهدها الآن!
