
يا صديقي،
أحيانًا، ونحنُ نسيرُ في دروبِ مساراتنا المهنية، قد نمرُّ بِمحطاتٍ صعبة لم نُخطط لها، أو نُشاهدُ أحباءً لنا يمرّونَ بتحديات لا نجدُ الكلمات المناسبة لوصفِها أو التعاطفِ الكامل معها.
ومن أشدِّ هذه المحطاتِ ألمًا وتعقيدًا هي تلك التي يجدُ فيها المرءُ نفسَهُ خارج إطارِ العمل، في فترةٍ تُعرفُ بـ «العطالة».
قد يظنُّ الناس أنّها فترةُ راحةٍ أو اختيارٍ شخصيّ، لكنّ الواقع أبعدُ من ذلكَ بكثير؛ إنها مرحلةٌ قد تبدو للبعضِ وكأنّها مجردُ فترة انتقالية، بينما هي في حقيقتِها معركةٌ نفسيةٌ واجتماعيةٌ طاحنة، جوهرُ مُعاناةٍ حقيقيةٍ يعيشها الكثيرون، تحديٍ قاسي يُخاضُ بصمتٍ خلفَ أبوابٍ مُغلقة، وربما لا يُدركُ قسوته حقًا إلا من اكتوى بناره…
دعني أُشارككَ اليومَ حديثًا عن هذهِ المعاناة التي قد لا تُرى بوضوح، وعن ألمٍ يحتاجُ منّا إلى الكثيرِ منَ التفهم والدعمِ لِمن يمرُّ به.
هل أنا بلا قيمة لأنني بلا عمل؟
منَ الصفعاتِ الأولى التي يتلقّاها الباحثُ عن عملٍ يا صديقي، ذلك الشعورُ الخفيّ بتزعزعِ الإحساس بالقيمة والهدف. ففي مجتمع يربطُ غالبًا بينَ قيمةِ المرءِ ومكانتهِ المهنية، قد يشعرُ العاطلُ بأنّهُ فقدَ جزءًا أساسيًا من هويتهِ، كأنّهُ أصبح مُجرّد «شخصٍ لا يعمل».
إذ تختفي الألقاب، وتَبهتُ بطاقةُ العمل، ويصبحُ السؤالُ التقليديّ في اللقاءات الاجتماعيةِ: «ماذا تعمل؟» سؤلًا مُؤلمًا يُذكّرهُ بالوضعِ الذي يُحاولُ جاهدًا الخروجَ منهُ.
هذا الفقدانُ للهوية يولّدُ شعورًا بالعزلة ويُضعف الثقة بالنفسِ كثيرًا؛ إذ يبدأُ الشخصُ في التساؤلِ عن قدراتهِ، عن جدوى سنواتِ دراستهِ وخبراتهِ السابقة. هل هوَ غيرُ كُفءٍ؟ هل السوقُ لا يحتاجُ مهاراتهِ؟ هذهِ الأسئلةُ تشعرُك كأنّكَ تفقدُ قيمتكَ في عيونِ الآخرين، وهذا الشعور مؤلمٌ كثيرًا بحدِّ ذاته.
صمت الهاتف بعد المقابلة.. هل هذا يعني أني غير كافٍ؟
من أثقل الأحمال على روح الباحث عن عملٍ يا صديقي، ذلك اللقب الذي قد يُلصَق به: «عاطل». وكأنَّ هذا اللقب يُلغي سنواتٍ من الدراسة، والخبرات، والجهد المبذول!
الألم لا يتوقف عند هذا، بل يمتدُّ ليشملَ الانتظار القاتل بعد كلِّ مقابلة عملٍ اجتهدتَ لتكونَ فيها في أفضل حال.
فكم مرةً يا صديقي فتحتَ بريدك الإلكترونيَّ بلهفةٍ مترقبًا ردًا على سيرةٍ ذاتيةٍ أرسلتها بأملٍ كبير؟ كم مرةً رنَّ هاتفك فقفزَ قلبك ظنًا أنّهُ اتصالٌ يحمل خبرًا سارًا؟ صمت البريد الوارد، أو عدم تلقّي أيّ ردٍّ بعد مقابلة اجتهدتَ فيها، هو صمتٌ جارح يشعِرُك بالوهْن واليأسِ، ويمزِّق خيوط الأمل الواحدة تلو الأخرى.
والأسوأ من الرفض الواضح، هو هذا الصمت المطبق الذي يترك مجالًا للشكّ والتساؤلات المرهقة: هل سيرتي الذاتية غير جيدة؟ هل ارتكبتُ خطأً في المقابلة؟ هل أنا غير كفءٍ لهذه الفرصة؟ كلّ هذا الصمت يُصبح صوتًا مزعجًا داخل الرأس، يردِّد عبارات التقليل من الذات ويُضعف الثقة بالنفس…
ومع كلّ ردٍّ سلبيٍّ أو عدم ردٍّ على الإطلاق، تتآكل معنويات الباحث شيئًا فشيئًا.
هذا الصراع المستمر، مع شعور دائم بعدم اليقين بشأن المستقبل، يشكِّل ضغطًا نفسيًا هائلًا لا يمكن لمن لم يعشه أن يدركه تمامًا.
نظرات الشفقة واللوم.. كلاهما يجرح بنفس القسوة
لا تخطئ يا صديقي، ليست نظرات الشفقة أقلّ ألمًا من نظرات اللوم الصريح؛ كلاهما يُشعرك بأنّك مختلف، وفي وضع غير طبيعيّ!
نظرات الشفقة من الأهل أو الأصدقاء قد تكون قاسيةً كنظرات اللوم تمامًا. خاصة مع الأسئلة المتكررة التي تحمل في طيّاتها إشارةً إلى التقصير: «هل تبحث بجدية؟»، «لماذا لم تقبل بتلك الفرصة الأقلّ من مستواك؟»، «فلانٌ وجد عملًا، لماذا لا تجد أنت أيضًا؟». هذه الكلمات، التي قد تُقال بنيةٍ حسنةٍ في بعض الأحيان، تُصبح كسهامٍ تُصيب قلب الباحث عن عملٍ المُنهك من المُحاولة أصلًا، فتزيده وجعًا على وجعه…
إذ يشعر بأنّهُ مُراقب ومحاسب، وأنّ وضعه الحاليّ هو فشلٌ شخصيٌّ لا ظروف خارجة عن إرادته. وهذا يُضاعف من الشعور بالعزلة والضغط النفسيّ.
فاعلم جيدًا أن الحاجة هُنا ليست للمحاسبة أو المقارنة، بل للاحتواء والتفهم والإيمان بقدراته.
الضغط النفسي والاجتماعي.. والبحث عن طوق النجاة!
عندما تتداخل هذه الجوانب المؤلمة -فقدان الهوية، صمت الرفض، الضغوط الاجتماعية- يجد المرء نفسه ينجرف في دوامةٍ من اليأس وفقدان الأمل. تُصبح محاولات البحث مجرّد روتين خالٍ من الروح، ويصعب إيجاد الدافع للاستمرار.
قد يشعر بالعجز التام، وبأنّ كلّ الأبواب مغلقة في وجهه، فتتأثر علاقاته الاجتماعية، وينسحب من المناسبات خوفًا من الأسئلة المحرجة أو نظرات الشفقة. وربما يصل الأمر بالبعض إلى مستوياتٍ مقلقةٍ من الاكتئاب.
وفي وسط هذا الظلام، يظلّ البحث عن قشة نجاةٍ أمرًا أساسيًا للبقاء والصمود. قد تكون هذه القشة في تعلّم مهارةٍ جديدة، أو في الانخراط في عملٍ تطوعيٍّ يُعيد للشخص شعوره بالانتماء والفائدة، أو حتى في مجرّد قراءة كتابٍ يُلهمه أو الاستماع إلى بودكاست يُشعره بأنّهُ ليس وحيدًا في معركته.
هذه الخطوات الصغيرة، ورغم أنّها قد لا تُنهي المعاناة فورًا، إلّا أنّها تُساعد في الحفاظ على الصحة النفسية، وتُبقي خيط الأمل رفيعًا، وتذكِّر المرء بأنّ قيمته لا تقاس بمسمًّى وظيفيّ.
العمل يأتي عندما ترفض الاستسلام
مهما طالت فترة البحث واشتدّت قسوتها، تُخبرنا القصص الملهمة أنَّ نقطة التحوّل غالبًا ما تأتي لمن يرفض الاستسلام لليأس ويتمسّك بخيط الصمود.
قد لا تأتي الفرصة على طبقٍ من ذهب، وقد تتطلّب مزيدًا من الجهد والمُثابرة وتطوير الذات، لكنّها حتمًا ستأتي.
ومما يُذكر في هذا السياق، الطرح الجميل والمؤثر لمعاناة الباحثين عن عمل في إحدى حلقات «بودكاست بترولي» حيث سُلط الضوء بأسلوب لامس الكثيرين على التحديات النفسية والاجتماعية لهذه الفترة، مؤكدًا أهمية الحديث عن هذا الموضوع وضرورة فهمهِ ودعمه.
فكلّ تجربةٍ صعبةٍ تزيد من القوة الداخلية وتصقل الشخصية، وتعدّ المرء لفرصٍ أفضل قادمة؛ إذ أنّها شهادةٌ على مرونة الروح البشرية وقدرتها على التعافي والنهوض بعد الكبوات.
لذا لا تفقد الإيمان بقدراتك، ولا تتوقّف في بحثك عن طرقٍ تُضيء بها مسارك بنفسك.
أخيرًا لنتعاطف وندعم.. لنبني مجتمعًا يتفهّم الألم
حديثنا هذا يا صديقي، ليس مجرّد سردٍ لمعاناة، بل هو دعوةٌ للتفكّر في هشاشة مساراتنا المهنية، وفي أهمية بناء شبكة دعمٍ قوية، وفي ضرورة التعاطف مع الآخرين الذين يمرّون بتحدياتٍ لا نُدركها تمامًا.
فهي دعوةٌ لكلّ من يمرّ بهذه التجربة ليعرف أنَّ ألمه حقيقيٌّ ومفهومٌ، وأنّهُ ليس وحيدًا، وأنَّ قيمته كإنسانٍ لا تقلّ أبدًا بسبب وضعه الوظيفيّ المؤقت.
وهي دعوةٌ لمن هم خارج هذه الدائرة لأن يمدّوا يد الدعم، كلمةً طيبة، نصيحةً بنّاءة، أو حتى مجرّد الاستماع بفهم.
فإن بناء المسارات المهنية القويةٍ لا يعني فقط النجاح الفرديّ، بل يعني أيضًا بناء مجتمعٍ مهنيٍّ مُتراحم ومتفهّم للتحديات التي تواجه أفراده.
وفي النهاية يا عزيزي…
ها قد وصلنا لختام حديثٍ تقاسمنا فيهِ الألم والأمل، فهمنا فيهِ عُمق التحديات التي تواجهُ من يبحثُ عن طريقهِ في عالمِ العمل. رحلةُ البحثِ هذهِ قد تكونُ قاسيةً، مليئةً بالصمت والأسئلة التي تُدمي، وبصراعٍ داخليٍّ عنيف.
لكن تذكّر دائمًا يا صديقي: أنتَ لستَ وحدكَ في هذهِ الرحلة. مشاعرُكَ حقيقيةٌ ومفهومة. والأهمُ، أنَّ قيمتكَ كإنسانٍ لا تُقاسُ بورقةٍ تُسمى «عقد عمل» أو بمُسمّى وظيفيّ… رحلتُكَ فريدةٌ، وقوتُكَ الداخليةُ أكبرُ مما تتخيل.
إذا لامسك هذا الحديث وشعرت برغبةٍ في استكشاف المزيد حول كيفية التعامل مع هذه التحديات وبناء المهارات اللازمة لتجاوزها والوصول إلى مسارٍ مهنيٍّ يُشبهك حقًا، فهذا هو تمامًا ما نقدِّمه لك في نشرتنا على «مختلفـ».
نكتب لك لأننا نراك، نشعر بك، ونؤمن أن لك مكانًا يليق بك… وسنسعى معك إليه ما استطَعنا دومًا.
اشترك الآن في نشرتنا البريدية

ترشيحات النشرة
نرشّح لكم حلقة مؤثرة من «بودكاست بترولي» مع مخلف الزيدان، لرحلة صادقة عبر تجاربه المتعددة بين الوظائف، من كاشير في محل أحذية إلى ماكدونالدز، وحتى بيع أغطية الجوال في الحديقة. نتعرف على كيف شكّلت العطالة، وفاة والده، والتفريغ الكتابي نقاط تحوّل في مسيرته، بالإضافة إلى دروسه حول أهمية عدم قطع الجسور مع الوظائف السابقة، والسير لأربع ساعات يوميًا لتحقيق هدفه. حلقة ملهمة تروي حكاية التحدي، التعلّم من الفشل، وإعادة بناء الذات من الصفر. لا تفوّتوها!
معاناة العاطلين التي لا يعرفها الموظفون مع مخلف الزيدان | بودكاست بترولي
